تصريحات نتنياهو- أزمة إسرائيلية أم استهانة بالسيادة السعودية؟

المؤلف: تركي الرجعان10.11.2025
تصريحات نتنياهو- أزمة إسرائيلية أم استهانة بالسيادة السعودية؟

في أروقة السياسة ودهاليزها، نادراً ما تكون التصريحات وليدة اللحظة وعفوية، بل هي انعكاس حقيقي لمواقف راسخة الجذور، أو تعبير عن أزمات داخلية مستعصية، أو حتى محاولات سافرة لإعادة تشكيل موازين القوى في الساحة الإقليمية والدولية المتقلبة. وهذا تحديداً ما يمكن استنتاجه بيسر من تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المثير للجدل حول إمكانية إقامة دولة فلسطينية مترامية الأطراف على أراضي المملكة العربية السعودية الشاسعة، وهو تصريح لا ينم فقط عن سوء تقدير سياسي فادح، بل يعكس أيضاً أزمة بنيوية متأصلة في صميم التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي. نتنياهو، الذي ما فتئ يتبنى خطاباً تصعيدياً حاداً تجاه القضية الفلسطينية العادلة، لم يكن يستهدف الفلسطينيين بخطابه هذه المرة، بل اختار عن عمد المملكة العربية السعودية لتكون بؤرة استثارة سياسية، في محاولة يائسة ومكشوفة لصرف الأنظار عن ورطته الداخلية المتفاقمة وأزماته المتلاحقة. بيد أن هذا التصريح لم يحقق النتائج المرجوة كما كان يصبو إليها، بل سلط الضوء بكثافة على التباين الشاسع بين سياسة سعودية حكيمة ومتزنة تقوم على أسس راسخة وثوابت لا تحيد، وخطاب إسرائيلي مرتبك ومتخبط بين أزماته الداخلية العميقة وأوهام السيطرة الإقليمية الزائفة. عقلية استعمارية متجذرة في ثوب سياسي معاصر في أعماق تصريح نتنياهو المشين، تتجسد عقلية استعمارية بالية تحاول جاهدة إعادة إنتاج نفسها في سياق العصر الحديث. فكرة "نقل" الفلسطينيين قسراً أو اقتراح إقامة دولتهم المنشودة في مكان آخر غير أرضهم التاريخية، تعكس جوهر المشروع الصهيوني الاستيطاني القائم على نفي الآخر وتجاهل وجوده وحقوقه المشروعة. نتنياهو، على الرغم من محاولاته الحثيثة لإخفاء هذه النزعة الاستعلائية، يكشف في لحظة عجز سياسي واضحة أن إسرائيل ما زالت تفكر بعقلية تجاوزها الزمن، عقلية لا تعترف بالحقوق التاريخية الراسخة للشعوب، وتحاول عبثاً فرض حلول وهمية بالقوة الغاشمة. هذا الطرح الاستفزازي لا يظهر فقط استخفافاً فظيعاً بتاريخ القضية الفلسطينية العادلة، بل يكشف أيضاً جهلاً سياسياً عميقاً بمكانة المملكة العربية السعودية المرموقة ودورها الإقليمي المحوري. فالمملكة ليست دولة هامشية يمكن الزج باسمها في تصريحات جوفاء لا طائل منها، بل هي قوة إقليمية راسخة تقود مواقفها من منطلقات ثابتة وقيم نبيلة وأخلاق رفيعة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من هوية المملكة السياسية والثقافية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. مأزق داخلي تعكسه التصريحات لم تأتِ تصريحات نتنياهو المتشنجة بمعزل عن سياق داخلي مضطرب تعيشه إسرائيل في الآونة الأخيرة. فالاحتجاجات الداخلية المتواصلة ضد سياساته المتطرفة، والتصدعات العميقة في التحالف الحكومي الهش، وتصاعد الانتقادات الدولية اللاذعة لانتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كلها عوامل مجتمعة دفعت نتنياهو إلى محاولة يائسة للهروب إلى الأمام من خلال اختلاق أزمة خارجية مصطنعة. هذا النمط ليس غريباً أو جديداً في تاريخ القادة الذين يواجهون أزمات داخلية طاحنة، إذ يلجأون عادة إلى البحث عن "عدو خارجي" وهمي أو قضية جدلية لإشغال الرأي العام المحلي وتشتيت انتباهه عن المشاكل الحقيقية. لكن ما لم يدركه نتنياهو على ما يبدو هو أن استخدام اسم المملكة العربية السعودية في هذا السياق لم يكن الخيار الذكي أو الصائب؛ لأن المملكة لا تتعامل مع التصريحات الاستفزازية الطائشة كردود أفعال عابرة، بل ترد بحزم وثبات يُعزز من مكانتها الرفيعة ويكشف هشاشة الخطاب الإسرائيلي المتهاوي. موقف سعودي راسخ لا يتزعزع جاء رد المملكة العربية السعودية على تصريح نتنياهو واضحاً وحاسماً كضوء الشمس. لم يكن مجرد رفض دبلوماسي تقليدي، بل كان تأكيداً قاطعاً على أن سيادة المملكة ليست موضوعاً للنقاش أو المساومة على الإطلاق، وأن القضية الفلسطينية ليست ملفاً سياسياً عابراً أو هامشياً، بل هي قضية جوهرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمبادئ المملكة الثابتة وقيمها الراسخة. سياسة المملكة العربية السعودية تجاه القضية الفلسطينية ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل هي امتداد لموقف تاريخي عريق يقوم على دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الأبي. المملكة لم ولن تغير مواقفها المبدئية رغم التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وهذا الثبات والرسوخ هو ما يُزعج قادة مثل نتنياهو، الذين اعتادوا على رؤية العالم من منظور مصالحهم الضيقة فقط. تداعيات التصريح على العلاقات الإقليمية لم يكن الهدف من تصريح نتنياهو سوى الضغط على المملكة العربية السعودية أو إحراجها كما كان يظن واهماً -وخاب ظنه- بل تسبب هذا التصريح المشين في نتائج عكسية تماماً. فقد أدى إلى تعزيز التضامن العربي والإسلامي حول القضية الفلسطينية العادلة، وأظهر بجلاء مدى عزلة إسرائيل المتزايدة في سياقها الإقليمي عندما يتعلق الأمر بالحقوق الفلسطينية المشروعة. هذا التصريح أيضاً أعاد طرح تساؤلات مهمة وحيوية حول مستقبل العلاقات الإسرائيلية مع دول المنطقة، خاصة مع تلك الدول التي كانت تفكر ملياً في فتح قنوات دبلوماسية مع إسرائيل. فقد كشفت تصريحات نتنياهو بوضوح أن التطبيع مع إسرائيل ليس مجرد مسألة اتفاقات سياسية أو معاهدات ثنائية، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى استعداد إسرائيل لاحترام القيم والسيادة الوطنية للدول الأخرى. عزلة دبلوماسية أم مأزق أخلاقي؟ ما يتجاهله نتنياهو عن عمد في حساباته الخاطئة هو أن إسرائيل تعاني من عزلة دبلوماسية متزايدة على الصعيدين الإقليمي والدولي بسبب سياساتها القمعية وانتهاكاتها المستمرة بحق الفلسطينيين. هذه العزلة ليست فقط نتيجة لمواقف الدول العربية والإسلامية الرافضة للظلم والعدوان، بل هي أيضاً نتيجة تحول كبير في الرأي العام العالمي الذي بات أكثر وعياً بالانتهاكات الإسرائيلية السافرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي. تصريحات نتنياهو المنفلتة لا تفعل شيئاً سوى تعميق هذه العزلة وكشف حقيقة دامغة مفادها أن إسرائيل تعيش أزمة أخلاقية عميقة قبل أن تكون أزمة سياسية عابرة. فبدلاً من الاعتراف بحقوق الفلسطينيين المشروعة ومحاولة بناء علاقات طبيعية قائمة على الاحترام المتبادل مع جيرانها، تواصل القيادة الإسرائيلية المتعنتة إنتاج خطاب ديماغوجي قائم على النفي والاستعلاء والإنكار. المملكة أكبر من أن تُستَهدف بتصريحات جوفاء في نهاية المطاف، تصريحات نتنياهو ليست أكثر من محاولة يائسة لصرف الأنظار عن أزمات إسرائيل الحقيقية والمستعصية. لكنها كانت أيضاً فرصة سانحة لإظهار الفرق الشاسع بين قيادة سياسية ناضجة وحكيمة مثل قيادة المملكة العربية السعودية الرشيدة، التي تتعامل مع التحديات بحكمة وروية وهدوء، وقيادة أخرى تعيش في فقاعة سياسية معزولة تماماً عن الواقع. المملكة العربية السعودية أكدت للعالم أجمع مرة أخرى أنها قوة إقليمية مستقلة ذات سيادة، لا تخضع للابتزاز السياسي الرخيص ولا تتأثر بالتصريحات العدائية الطائشة. وموقفها الثابت والراسخ من القضية الفلسطينية ليس مجرد موقف دبلوماسي أو تكتيكي، بل هو تجسيد حقيقي لهوية سياسية وأخلاقية عريقة تُعزز مكانتها المرموقة على الساحة الدولية. أما نتنياهو، فقد أطلق تصريحاً يكشف أزمته العميقة هو، وليس عن أي ضعف مزعوم لدى المملكة العربية السعودية الشامخة. وفي هذا الاختبار السياسي المحتدم كان الرد السعودي القوي والحازم هو الانتصار الحقيقي والساحق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة